يوم الجمعة الماضي عجيب غريب، فهو يلي يوم المولد النبوي الذي يحتفل به المسلميون ويصادف الجمعة الحزينة كما تسمى عند المسيحيين العرب والجمعة الطيبة كما تسمى عند المسيحيين الأوروبيين. وهذه الأيام أيضاً توافق عيد المساخر عند اليهود، عليه، فقد قررت ان أذهب لصلاة الجمعة للحصول على بركات هذه الأيام الكريمة المقدسة عند الديانات السماوية والتي يحسبها المسلمون ثلاثة، ويحسبها المسيحيون اثنتان وهي واحدة فقد عند اليهود!
يا ترى، لماذا هي جمعة طيبة عند المسيحيين الأوروبيين بينما هي عند نفس اتباع الدين من أبناء جلدتنا جمعة حزينة؟ لا بد انها جيناتنا الكئيبة او الهواء الملوث الذي نتنفسه او الشمس اللاهبة التي تطس العقول في هذه الأوطان الكئيبة!
ساعة الصفر:
أدخل المطهرة فاجدها مزدحمة وأجد القوم بين نافٍ وتافٍ ومُشَمِّرٍ ومُقَنْبِزٍ، فاشمر واقتنبز وأتف وأنف واتشطف وأخلخل بين أصابع اليدين والقدمين ناوياً الطهارة.
المشهد الأول:
أبو بريص صوته شنيع، ومع هذا فانه يحسب بانه باحتكاره للآذان فانه سيدخل الجنة بدون سؤال. ولكن الأهم من هذا انه كايد اعداءه الذين يتمنون غيابه لأخذ فرصتهم في الحياة... أقصد في الآذان. وهو يحسب نفسه بلال بن رباح ويتمنى لو ان أميه يبيعه لنادي برشلونه او آرسنال بدلاً من ان يبيعه لأبي بكر ليعتقه. المهم، أزفت الساعة فقام أبو بريص للآذان وانبرى يصدح بصوته الملعلع عبر مكبر الصوت ليُسْمِع خلق الله بان الله أكبر... الله أكبر.... كتمت السؤال في نفسي الأمارة بالسوء: لماذا هذا الصراخ كل يوم خمس مرات (على الأقل)؟ أذكر ان صديقاً غير مسلم صارحني برأيه في الآذان مرة فقال انه رغم ان الآذان يتكون "تقنياً" من جمل مفيدة، إلا انه غير مفيد في الإجمال. لن اخوض فيما عناه ذلك الشخص وسأترك لكم التأويل كما تريدون.
المشهد الثاني:
لم ادخل مسجداً منذ مدة. ينتابني شعور غريب. لماذا أنا هنا؟ لماذا هؤلاء هنا؟ لماذا نجلس على الأرض في هذه الوضعية غير المريحة؟ ثم ماذا يقول هذا الشخص الواقف بجانب المنبر؟ لماذا يقف بجانب المنبر وليس فوقه؟ يا له من هدر؟ إن كان المنبر لا لزوم له ويمكن للخطيب ان يقف على الارض، فلماذا يجمعون التبرعات لشراء هذه المنابر؟ واستمرت الأسئلة الفارغة تقرع تلافيف مخي إلى ان عَلى صوت الخطيب: اللهم افعل... اللهم لا تفعل... اللهم افعل ولكن لا تًكْثِر... اللهم لا تفعل ولكن لا بأس ان فعلت قليلاً... وانا والموجودين نرد بصوت جهوري نتصنع فيه الخشوع والتقوى والورع: آميــــــــــــــــــــــــــــن. مين آمين هذا؟ ما دخل آمين فيما نقول؟ مش مهم، آميـــــــــــــــــن.
يتابع الامام الورع الخطبة قافزاً بشطارة بين الوعيد والتهديد، والقال والقيل، والتهليل والتكبير، والشهيق والزفير، والتنحنح والانتحاب، والنشيج والعويل، ثم السب واللعن على الكافرين والاستغفار للمؤمنين والدعاء لهم باكمال الدين وستر عوراتهم اللاتي هي بناتهم وأزواجهن وكل مؤنت في حياتهم. وبين الحينة والفينة يصلى على أشرف الخلق أجمعين وامام المتقين والذي نحتفل بذكرى ميلاده اليوم وكل يوم. ويلفت نظرنا إلى ان الله وملائكته يصلون على النبي، إلخ، إلخ، فنصلي نحن أيضاً عليه مثلهم ومثل خطيبنا الهمام. ولا يفوت الخطيب المفوه الاشارة إلى الرسوم الدنماركية وانهم بقر لا يفقهون لأننا وحدنا من يفهم! ويحتسب الخطيب الله عليهم ونحتسب معه!
المشهد الثالث:
فَطَّ فلان من الصف الأول فأقام الصلاة. كم كنت اتمنى لو كان هناك مجالاً للإبداع هنا. نفس الكلمات ونفس اللفتات لليمين واليسار حسب السنة منذ أكثر من 1400 سنة. هذا الأمر لا يعنيني. ما يعنيني هو سنين عمري التي لم يتغير هذا "الخطاب" خلالها. كيف لا يصاب من يستمع لهذا الكلام أو يقوله مراراً وتكراراً بالملل؟ ربما ان البعض يجد متعة في هذا، لكني ومن قلبي وبدون تحامل: مَلّيت.
المشهد الرابع:
الامام يحذرنا من ان نقف بعوج ويحذرنا أيضاً من الصفوف الملتوية ولسان حاله يقول: "صحيح انكم تقفون خلفي ولكني واعيلكم ومركب عيون في قفايا". الشيطان يتربص بكم، ان ترك احدكم فُرْجَة بينه وبين الواقف بجانبه والذي افطر فولاً بالبصل فسيدخل الشيطان ليقف فيها. فكرت: هل اترك فجوة بيني وبين صاحب الكرش الذي عن يميني لعل الشيطان يقف فيها وانال حسنات لانني أجبرت ابليس على الصلاة. هل اترك فجوة بيني وبين هذا التنح الواقف عن يساري والمصمم على غرس اصابع قدمه في اصابع قدمي والذي كلما سحبت قدمي اليسرى لليمين، لحقني كانه مسلط علي كعملي الرديء. ليت الشيطان يقف بيننا فيتعذب العذاب الأكبر على يد (أو بالأحرى رجل) هذا المزعج.
يطلب الامام استحضار النية وينصحنا بان نصلي صلاة مودع. يا سيدنا الشيخ، لماذا هذا التشاؤم؟ سؤال لم أسأله، فلم يجاوب هو!
المشهد الخامس:
يكبر الامام فنكبر، يقرأ فننصت ونقرأ، يطيل فنتمايل في خشوع، يركع فننخ، ثم يسجد فنخر وراءه ساجدين، ثم يقعد فنكون مثله من القاعدين. الخوف يملأ قلبي. هل يمكن ان يضحك علي الشيطان الذي اندس بيني وبين صاحبي ذي الكرش فيجعلني أرفع رأسي قبل الامام فانقلب حماراً؟
تمضي الدقائق كأنها ساعات ويتابع الامام القراءة بلا كل ولا ملل ولا نصب ولا تعب ونحن في اثره ماضون. أخيراً، نجلس فتطول الجلسة ثم نسلم عن اليمين وعن الشمال. أتذكر انه كان بامكاني ان اتف على الواقف عن يساري ولكني اضعت الفرصة. ربما في المرة القادمة. وعلى رأي الحاجة والدتي: كل تأخيرة وفيها خيرة وخيرها في غيرها.
المشهد الأخير:
نجلس في خشوع نستغفر ربما على الأفكار التي دارت بخواطرنا أثناء الصلاة ثم نقوم فنصلي السنة وكأن الفرض لا يكفي. هل هذا نوع من البقشيش؟ على أي حال نقوم متجهين نحو الأبواب للخروج وكانك يا محترم في عش دبابير: زن زن زن زن. الكل يكلم الكل وكانه آخر عهدهم بالكلام فيريدون ان يشبعوا منه. نخرج فاذا بالسوق قد نُصِبَ على أبواب المسجد فننتشر في الأرض ونتهافت على ارزاقنا.
سيماهم على وجوههم:
اتطلع حولي فأرى الجمع في سعادة غامرة وطمأنينة وسكينة... سيماهم على وجوهم. احس بسعادة لان السكينة لم تتمكن مني وأفر من بين الجموع لأتوارى عن العيون.
وتقبل الله طاعاتكم............