يا ترى، لماذا هي جمعة طيبة عند المسيحيين الأوروبيين بينما هي عند نفس اتباع الدين من أبناء جلدتنا جمعة حزينة؟ لا بد انها جيناتنا الكئيبة او الهواء الملوث الذي نتنفسه او الشمس اللاهبة التي تطس العقول في هذه الأوطان الكئيبة!
أدخل المطهرة فاجدها مزدحمة وأجد القوم بين نافٍ وتافٍ ومُشَمِّرٍ ومُقَنْبِزٍ، فاشمر واقتنبز وأتف وأنف واتشطف وأخلخل بين أصابع اليدين والقدمين ناوياً الطهارة.
المشهد الأول:
أبو بريص صوته شنيع، ومع هذا فانه يحسب بانه باحتكاره للآذان فانه سيدخل الجنة بدون سؤال. ولكن الأهم من هذا انه كايد اعداءه الذين يتمنون غيابه لأخذ فرصتهم في الحياة... أقصد في الآذان. وهو يحسب نفسه بلال بن رباح ويتمنى لو ان أميه يبيعه لنادي برشلونه او آرسنال بدلاً من ان يبيعه لأبي بكر ليعتقه. المهم، أزفت الساعة فقام أبو بريص للآذان وانبرى يصدح بصوته الملعلع عبر مكبر الصوت ليُسْمِع خلق الله بان الله أكبر... الله أكبر.... كتمت السؤال في نفسي الأمارة بالسوء: لماذا هذا الصراخ كل يوم خمس مرات (على الأقل)؟ أذكر ان صديقاً غير مسلم صارحني برأيه في الآذان مرة فقال انه رغم ان الآذان يتكون "تقنياً" من جمل مفيدة، إلا انه غير مفيد في الإجمال. لن اخوض فيما عناه ذلك الشخص وسأترك لكم التأويل كما تريدون.
لم ادخل مسجداً منذ مدة. ينتابني شعور غريب. لماذا أنا هنا؟ لماذا هؤلاء هنا؟ لماذا نجلس على الأرض في هذه الوضعية غير المريحة؟ ثم ماذا يقول هذا الشخص الواقف بجانب المنبر؟ لماذا يقف بجانب المنبر وليس فوقه؟ يا له من هدر؟ إن كان المنبر لا لزوم له ويمكن للخطيب ان يقف على الارض، فلماذا يجمعون التبرعات لشراء هذه المنابر؟ واستمرت الأسئلة الفارغة تقرع تلافيف مخي إلى ان عَلى صوت الخطيب: اللهم افعل... اللهم لا تفعل... اللهم افعل ولكن لا تًكْثِر... اللهم لا تفعل ولكن لا بأس ان فعلت قليلاً... وانا والموجودين نرد بصوت جهوري نتصنع فيه الخشوع والتقوى والورع: آميــــــــــــــــــــــــــــن. مين آمين هذا؟ ما دخل آمين فيما نقول؟ مش مهم، آميـــــــــــــــــن.
يتابع الامام الورع الخطبة قافزاً بشطارة بين الوعيد والتهديد، والقال والقيل، والتهليل والتكبير، والشهيق والزفير، والتنحنح والانتحاب، والنشيج والعويل، ثم السب واللعن على الكافرين والاستغفار للمؤمنين والدعاء لهم باكمال الدين وستر عوراتهم اللاتي هي بناتهم وأزواجهن وكل مؤنت في حياتهم. وبين الحينة والفينة يصلى على أشرف الخلق أجمعين وامام المتقين والذي نحتفل بذكرى ميلاده اليوم وكل يوم. ويلفت نظرنا إلى ان الله وملائكته يصلون على النبي، إلخ، إلخ، فنصلي نحن أيضاً عليه مثلهم ومثل خطيبنا الهمام. ولا يفوت الخطيب المفوه الاشارة إلى الرسوم الدنماركية وانهم بقر لا يفقهون لأننا وحدنا من يفهم! ويحتسب الخطيب الله عليهم ونحتسب معه!
فَطَّ فلان من الصف الأول فأقام الصلاة. كم كنت اتمنى لو كان هناك مجالاً للإبداع هنا. نفس الكلمات ونفس اللفتات لليمين واليسار حسب السنة منذ أكثر من 1400 سنة. هذا الأمر لا يعنيني. ما يعنيني هو سنين عمري التي لم يتغير هذا "الخطاب" خلالها. كيف لا يصاب من يستمع لهذا الكلام أو يقوله مراراً وتكراراً بالملل؟ ربما ان البعض يجد متعة في هذا، لكني ومن قلبي وبدون تحامل: مَلّيت.
المشهد الرابع:
يطلب الامام استحضار النية وينصحنا بان نصلي صلاة مودع. يا سيدنا الشيخ، لماذا هذا التشاؤم؟ سؤال لم أسأله، فلم يجاوب هو!
المشهد الخامس:
المشهد الأخير:
نجلس في خشوع نستغفر ربما على الأفكار التي دارت بخواطرنا أثناء الصلاة ثم نقوم فنصلي السنة وكأن الفرض لا يكفي. هل هذا نوع من البقشيش؟ على أي حال نقوم متجهين نحو الأبواب للخروج وكانك يا محترم في عش دبابير: زن زن زن زن. الكل يكلم الكل وكانه آخر عهدهم بالكلام فيريدون ان يشبعوا منه. نخرج فاذا بالسوق قد نُصِبَ على أبواب المسجد فننتشر في الأرض ونتهافت على ارزاقنا.
سيماهم على وجوههم:
اتطلع حولي فأرى الجمع في سعادة غامرة وطمأنينة وسكينة... سيماهم على وجوهم. احس بسعادة لان السكينة لم تتمكن مني وأفر من بين الجموع لأتوارى عن العيون.
وتقبل الله طاعاتكم............